فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}.
هذه الجملة تعليل للإنكار في قوله: {فبأي حديث بعده يؤمنون} [الأعراف: 185]، لإفادة أن ضلالهم أمر قدر الله دوامَه، فلا طمع لأحد في هديهم، ولما كان هذا الحكم حاقًا على من اتصف بالتكذيب، وعدم التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله، وفي توقع اقتراب استيصالهم، كان المحكوم عليهم بعدم الاهتداء فريقًا غير معروف للناس، وإنما ينفرد الله بعلمه ويُطْلع عليه رسوله عليه الصلاة والسلام، وينكشف بعض ذلك عند موت بعضهم على الشرك، وهذه هي المسألة الملقبة بالموافاة عند علماء الكلام.
وعطف جملة: {ونذَرهم في طغيانهم يعمهون} على جملة: {من يضلل الله فلا هادي له} للإشارة إلى استمرار ضلالهم وانتفاء هديهم في المستقبل كما وقع في الماضي.
وتفسير: {نذرهم} تقدم في قوله تعالى: {وذَر الذين اتخذوا دينهم لعبًا} في سورة الأنعام (70) وتفسير طغيان و{يعمهون} تقدم عند قوله: {في طغيانهم يعمهون} في سورة البقرة (15).
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر: {نَذرهم} بالنون وبالرفع، على أنه عطف جملة على جملة: {من يضلل الله} على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بالياء التحتية والجزم، على أنه عطف على موضع {فلا هادي له} وهو جواب الشرط.
وقرأ أبو عَمرو، وعاصم، ويعقوب: بالياء التحتية وبالرفع والوجه ظاهر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}.
وقد كرر الحق هذا كثيرًا، لأن الأشياء التي قد يقف العقل فيها، أو تأخذه مذاهب الحياة منها، ويكررها الله، ليجعلها في بؤرة الاهتمام دائمًا، لعل هذا التكرار يصادف وعيًا من السامع. وانظر إلى الحق وهو يعدد نعمه في سورة الرحمن فيقول بعد كل نعمة: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
إنه يكرر ذكر النعم ليستقر الأمر في ذهن السامع. {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}.
وسبحانه لا يرغم واحدًا على أن يهتدي، فإن اهتدى فلنفسه، وإن لم يهتد فليشرب مرارة الضلال.
وكلنا نعرف أن الطبيب يكتب أسلوب العلاج للمريض، ليتم الشفاء بإذن من الله، الدواء إذن وسيلة إلى العافية، فإن رفض المريض تناول الدواء فهل في ذلك إساءة للطبيب؟ لا. وكذلك منهج الله. {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}.
لكن هل يريد الله الضلال لأحد، لا، بل سبحانه دعا الناس جميعًا بهداية الدلالة، فمن اهتدى زاده بهداية المعونة، ومن ضل فليذهب إلى الكفر كما شاء. ولذلك يقول لنا الشرع: إياك أن تشرك بالله شيئًا في أي عمل؛ لأن ربنا يقول لنا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول: قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه».
ومعنى الشركة في عرف البشر، أن مجموعة من الناس عرفوا أن عمل كل منهم ومال كل منهم، وموهبة كل منهم، لا تكفي لإقامة مشروع ما، لذلك يكونون شركة لإنتاج معين، فهل هناك ما ينقص ربنا ليستكمله من آخر؟ حاشا لله. بل إن مجرد توهم العبد بأن هناك شريكًا يجعل الله رافضًا لعبادة العبد المشرك. لذلك يقول في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه». وما دام ربنا قد تنازل عن رعايته له فليتلق المتاعب من حيث لا يدري.
ومن قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ}.
نتبين أنه حين يحكم الله بضلال إنسان أو بهداية آخر فلن يستطيع البشر أن يعدِّل على الله، ليجعل شيئًا من ضلال هو هدى، أو شيئًا من هدى هو ضلال.
كما يتضح من تلك الآية الكريمة أن من في قلوبهم مرض يزيدهم الله مرضًا ويتركهم في طغيانهم يعمهون، والعمه هو فقدان القلب للبصيرة، والعمى هو فقدان العين للبصر. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)...} الآيات.
{وإذ} أي: إذ يا محمد {نتقنا} أي: رفعنا {الجبل فوقهم} أي: من أصله {كأنه ظلة} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال {وظنوا} أي: أيقنوا {أنه واقع بهم} أي: ساقط عليهم بوعد الله بوقوعه إن لم يقبلوا أحكام التوراة.
روي أنهم لم يقبلوا أحكام التوراة لعظمها وثقلها فرفع الله تعالى الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم فكان فرسخًا في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعنّ عليكم فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل واحد منهم ساجدًّا على حاجبه وهو ينظر بعينه اليمنى خوفًا من سقوطه فلذلك لا ترى يهوديًا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، وقوله تعالى: {خذوا} هو على إضمار القول أي: قلنا لهم خذوا أو قائلين خذوا {ما آتيناكم} أي: من الكتاب وقوله تعالى: {بقوّة} أي: بجد وعزم على تحمل مشاقه حال من واوخذوا {واذكروا ما فيه} أي: بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي {لعلكم تتقون} أي: فضائح الأعمال ورذائل الأخلاق {وإذ} أي: واذكر يا محمد حين {أخذ ربك من بني آدم} وقوله تعالى: {من ظهورهم} بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار كما قاله السيوطي، أو بدل بعض كما قاله البيضاوي {ذريّاتهم} أي: بأن أخرج بعضهم من صلب بعض نسلًا بعد نسل كنحو ما يتوالدون كالذر، ونصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فيهم عقلًا عرفوا به، كما جعل للجبال عقولًا حين خوطبوا بقوله تعالى: {يا جبال أوبي معه والطير} (سبأ،).
كما جعل تعالى للبعير عقلًا حتى سجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا للشجرة حين سمعت لأمره وانقادت، وكذا للنملة حين قالت: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل،).
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر بألف بعد الياء وكسر التاء على الجمع والباقون بغير ألف وفتح التاء على التوحيد. {وأشهدهم على أنفسهم} قال: {ألست بربكم قالوا بلى}.
أنت ربنا، وعن مسلم بن يسار الجهني أنه قال: إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها فقال: «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرّية» فقال: خلفت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرّية، فقال: هؤلاء إلى النار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذرّيته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصًا من نور، وعرضهم على آدم فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: ذرّيتك، فرأى رجلًا منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: يا رب من هذا؟ قال: داود، قال: يا رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين سنة جاءه ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟ فجحد آدم فجحدت ذرّيته، ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذرّيته، وخطىء فخطئت ذرّيته». أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أبصر آدم في ذرّيته قومًا لهم نور، فقال: يا رب من هم؟ فقال: الأنبياء، ورأى واحدًا هو أشدّهم نورًا، فقال: يا رب من هو؟ قال: داود، قال: فكم عمره؟ قال: ستون سنة، قال آدم: هو قليل، وكان عمر آدم ألف سنة، فقال: يا رب زده من عمري أربعين سنة، فلما تم عمر آدم تسعمائة وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه، فقال: بقي من أجلي أربعون سنة، فقال: ألست قد وهبتها من ابنك داود؟ فقال: ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئًا، فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها.
وعن مقاتل أنّ الله تعالى مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فخرج منه ذرّية بيض كهيئة الذرّ تتحرك، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فخرج منه ذرّية سود كهيئة الذرّ، فقال: يا آدم هؤلاء ذرّيتك، ثم قال لهم: ألست بربكم، قالوا: بلى، فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي، وهم أصحاب اليمين، وقال للسود: هؤلاء في النار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة، ثم أعادهم جميعًا في صلب آدم، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، وقال تعالى فيمن نقض العهد الأوّل: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} (الأعراف،).
وقال بعض المفسرين: إنّ أهل السعادة أقروا طوعًا، وقالوا: بلى، وأهل الشقاوة قالوا بغتة وكرهًا، وذلك معنى قوله تعالى: {وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا} (آل عمران،).
واختلفوا في موضع الميثاق، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ببطن نعمان، وهو واد إلى جنب عرفة، وعنه أيضًا أنه بدهناء من أرض الهند، وهو الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام، وقال الكلبي: بين مكة والطائف.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم} وإنما أخرجه من ظهر آدم؟
أجيب: بأن الله تعالى أخرج ذرّية آدم بعضهم من ظهور بعض على ما يتوالدون فالأبناء من الآباء في الترتيب، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره، فالمخرج من ظهورهم مخرج من ظهره.
وقوله: {شهدنا} أي: على أنفسنا بذلك وإنما أشهدهم على أنفسهم كراهة {أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا} التوحيد {غافلين} أي: لعدم الأدلة، فلذلك أشركنا، وقوله تعالى: {أو يقولوا} أي: لو لم ترسل إليهم الرسل، عطف على {أن يقولوا}، وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة، والباقون بالتاء على الخطاب {إنما أشرك آباؤنا من قبل} أي: قبل أن نوجد {وكنا ذرّية من بعدهم} أي: فلم نعرف لنا مربيًا غيرهم، فكنا لهم تبعًا فشغلنا اتباعهم عن النظر، ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم: {أفتهلكنا بما فعل المبطلون} أي: من آبائنا، قال أبو حيان: والمعنى أنّ الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمن العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان: إحداهما: كنا غافلين، والأخرى: كنا تبعًا لأسلافنا، فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا، انتهى.
فإن قيل: كيف يكون ذكر الميثاق عليهم حجة فإنهم لما أخرجوا من ظهر آدم ركب فيهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، فلما أعيدوا إلى صلبه بطل ما ركب فيهم فتوالدوا ناسين لذلك الميثاق؟
أجيب: بأن التذكير به على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس، وبذلك قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا، فمن أنكره كان معاندًا ناقضًا للعهد، ولزمتهم الحجة، ولا تسقط الحجة بنسيانهم وعدم حفظهم بعد إخبار الصادق صاحب الشرع والمعجزات الباهرات.
والمقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعدما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال كما قال تعالى: {وكذلك} أي: ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع {نفصل الآيات} أي: كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجنابنا جهلًا لعدم الدليل {ولعلهم يرجعون} أي: عن التقليد واتباع الباطل.